التلبيــة: محمد مهدي الآصفي

التلبيــة
محمد مهدي الآصفي
التلبيــة
لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكْ
لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكْ
إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكْ
لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكْ
الحج "دعوة" و "تلبية":
دعوة من الله ـ تعالى ـ لعباده أن يَحِلُّوا ضيوفاً عليه، عند بيته المحرّم، ويطلبوا قِراه، ويستفتحوا أبواب رحمته الواسعة. وإبراهيم (ع) خليل الرحمن، وأبو الأنبياء و رائد التوحيد، هو رسول الله ـ تعالى ـ إلى عباده، والمبلّغ عن الله في هذه الدعوة.
يقول تعالى: ﴿وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجٍّ عميق﴾(1)، هذه هي الدعوة.
وأما التلبية فهي من الناس الذين دعاهم ربّهم إلى بيته ﴿وأذّن في الناس بالحجّ﴾ يُشهرون فيها استجابتهم لدعوة ربّهم، ويعلنون الاستجابة كلّ سنة في جموع غفيرة حاشدة في الميقات من كلّ فجٍّ عميق.
ويرفعون إلى الله تعالى هذه التلبية كلّ سنة في رحاب الميقات بالتلبيات الأربعة التي علّمناها رسول الله (ص): لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ".
روى عبيد الله الحلبي عن أبي عبد الله (الصادق) (ع) قال: سألته لِمَ جُعِلَتْ التلبية؟ فقال: إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ أوحى إلى إبراهيم (ع): ﴿وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالا﴾ فنادى فأجيب من كلّ فجٍّ عميق يلبّون(2).
وسنتحدّث ـ إن شاء الله ـ عن كلّ من "الدعوة" و "التلبية".
الدعوة:
الحجّ ضيافة الله ـ تعالى ـ لعباده، فهو دعاهم لهذه الضيافة، واستضافهم في بيته المحرّم في موسم الحج، كما أنّ الصيام ضيافة أُخرى في شهر رمضان المبارك، وفي كلا الضيافتين يدعو الله ـ تعالى ـ عباده إلى أفضل مواهبه ونعمه.
والمواهب والنعم التي يدعو الله ـ تعالى ـ عباده إليها في الحج تختلف عمّا نألفه ونعرفه في حياتنا الدنيا من المواهب الإلهية والنعم، حتى عن تلك التي يهبها لعباده الصائمين في شهر رمضان.
فإنّ دعوة الحج تتضمن الدعوة إلى "التوحيد" و "التسليم" و "الإخلاص" و "الكدح في سبيل الله" و "التجرّد عن الأنا والهوى" و "الانقطاع إلى الله" و "انتزاع الغل والحقد من النفوس"، كما تتضمن الدعوة الالتزام بقيم العبودية الخالصة لله وحده.
هذهِ هي الدعوة، والتلبية استجابة لهذه الدعوة الإلهية استجابة من العباد لدعوة الله ـ تعالى ـ لهم على لسان نبيّه إبراهيم (ع).
الدعوة والوعد بالاستجابة:
ومن جمال وعظمة هذه الدعوة الإلهية ـ التي أشْهَرها إبراهيم خليل الرحمن بأمر من الله تعالى في عباده ﴿وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق﴾ ـ أنّ الله تعالى وعد عبده وخليله إبراهيم عندما أمره بإشهار هذه الدعوة... استجابة عباده لهذه الدعوة، ﴿يأتوك ورجالا وعلى كلّ ضامر﴾.
فكأنّ الدعوة من الله لعباده، وإشهار الدعوة بأمر من الله، والاستجابة للدعوة بضمان ووعد من الله تعالى لعبده وخليله إبراهيم (ع).
ومنذ أن وعد الله ـ تعالى ـ إبراهيم عبده وخليله بالاستجابة لهذه الدعوة يحج في كلّ عام حشد غفير من الحجاج من الميقات إلى البيت الحرام ليلبّوا هذه الدعوة.
الدعوة إلى التلبية الطوعية:
وكل ما في هذا الكون يلبّي أمر الله طائعاً، منقاداً في كلّ شيء لله تعالى، إلاّ أنّ الله ـ تعالى ـ أكرم الإنسان بالدعوة إلى عبادته وطاعته طوع إرادتهم، وأكرمهم بهذه التلبية الطوعية.
وتختلف التلبية "الطوعية" عن التلبية "القهرية" أنّ الحركة منها إلى الله حركة واعية، وبالحركة الواعية يبلغ الإنسان من الكمال والعروج إلى الله ما لا يصله بغيرها.
وهي ميزة وتكريم خصّ الله بها من اصطفى من خلقه. والنقطة المقابلة لهذا التكريم هي "السقوط" والهلاك إذا رفض الإنسان الاستجابة لله طوعاً، وعن اختيار. إنّ في كل استجابة طوعية لدعوة الله تعالى عروج إلى الله، وفي كل إعراض و صدود عن الله تعالى سقوط وهلاك.
وخصّ الله الإنسان وأكرمه بهذا الخيار "الصعب" ﴿إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنّه كان ظلوماً جهولا﴾(3).
الدعوة من الله والتلبية من العباد:
وتكريم آخر للإنسان في أصل الدعوة. فإنّ الدعوة عادة من صاحب الحاجة، والتلبية ممن يملك هذه الحاجة، والله تعالى هو الغني، وعباده الفقراء إليه: ﴿يا أيّها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيّ الحميد﴾(4).
وشاء الله أن يكرم عباده بأن دعاهم إلى عبادته، وهو الغني عن عبادة عباده له، وشاء الله أن تكون التلبية من عباده الفقراء إليه.
وحقّ عليهم أن يطلبوا من الله ـ تعالى ـ أن يأذن لهم بالعبودية والعبادة، ولكن الله ـ تعالى ـ بدأهم بهذه الدعوة، وأكرمهم بالتلبية والاستجابة، وهو غاية ما يمكن أن يبلغه الكرم، وإذا كانت هذه الدعوة من الله غاية الجود والكرم من الله، فإنّ الإعراض والصدود عنها غاية اللؤم من الإنسان، وإذا كانت الاستجابة لهذه الدعوة من سعادة الإنسان، فإنّ من بؤس الإنسان وشقائه الإعراض والصدود عن الاستجابة لهذه الدعوة.
ولهذا السبب قلت: إنّ الاستجابة لدعوة الله ـ تعالى ـ عروج إلى الله، والصدود والإعراض عنها سقوط وهلاك للإنسان.
وكيف انعكس الأمر ـ في هذه الدعوة الإلهية ـ وانقلب العبد في فقره وحاجته من موقع الطالب والداعي والسائل إلى موقع "التلبية". وكان الله تعالى هو صاحب الدعوة والطلب، وهو غني بذاته عن خلقه وعباده.
إنّ لهذا الانقلاب في المواقع سرّاً. وهو خصلة الكرم والجود الذاتية والأصيلة في الذات الإلهية، فهو سبحانه وتعالى يُحبُّ أن يجود على عباده ويُحبُّ أن يكرمهم وأن يحسن إليهم، كما نحتاج نحن إلى جوده وكرمه وإحسانه.
وحبّ الجود والكرم والإحسان والعطاء صفة من صفات ذاته عزّ شأنه، وليس على الإنسان إلاّ أن يضع نفسه في مواضع جوده وكرمه وإحسانه وعطائه تبارك وتعالى، وهذه حقيقة من حقائق العلاقة بين الله تعالى وعباده، وهذه الحقيقة تفتح على الإنسان أبواباً من المعرفة. فكما نحتاج نحن إلى رحمة الله تعالى وفضله يحبّ الله تعالى أن يجود برحمته وفضله على عباده. وهذه العلاقة قائمة بين كلّ غني وفقير. ولا تقلّ حاجة الغني إلى العطاء والكرم عن حاجة الفقير إلى الغني.
والله تعالى غني عن عباده، وغناه في ذاته، فلا يحتاج عبادَه وخلقه في شيء، ولكنّه يحبّ أن يجود عليهم، ويكرمهم، ويعطيهم من فضله ورحمته، كما نحتاج نحن إلى رحمته وفضله وجوده.
وهذا هو سرّ دعوة الله لعباده بالإقبال عليه، والدخول في رحاب ضيافته، والوقوف على أبواب رحمته في شهر ذي الحجة في عرفات عند بيته المحرّم وفي شهر الصيام، فيدعو الله تعالى عباده لدعائه; ليستجيب لهم برحمته وفضله.
وهذه من ألطاف سنن الكرم الإلهي. يقول تعالى: ﴿ُدعوني أستجب لكم﴾فتحل دعوة العبد، في هذه الآية الكريمة بين دعوة الله تعالى واستجابته.
فالله عزّ شأنه يدعو عباده لدعائه ليستجيب لهم ﴿أُدعوني أستجب لكم﴾، فيقع دعاء العبد بين "دعوته" تعالى له بالدعاء، و "استجابته" سبحانه لدعائه.
والله عزّ شأنه يحبّ دعاء عباده، ويشتاق إلى مناجاتهم، ويحب الاستجابة لدعائهم.
عن رسول الله (ص): إنّ الله أحبّ شيئاً لنفسه، وأبغضه لخلقه، أبغض لخلقه المسألة، وأحبّ لنفسه أن يُسأل، وليس شيء أحبّ إلى الله ـ عزّ وجلّ ـ من أن يُسأل. فلا يستحي أحدكم من أن يسأل الله من فضله، ولو شسع نعل(5).
وعن أبي عبد الله الصادق (ع): "أكثروا من أن تدعو الله، فإنّ الله يحبّ من عباده المؤمنين أن يدعوه، وقد وعد عباده المؤمنين الاستجابة"(6).
وفي الدعاء الذي علّمه أمير المؤمنين (ع) لكميل بن زياد النخعي (رحمه الله): "وأمرتهم بدعائك، وضمنت لهم الإجابة" ودعاء العبد يقع بين تلك الدعوة وهذه الإجابة.
التلبية جوهر العبودية:
التلبية هي الاستجابة.
والاستجابة لله في مساحتين: مساحة الدعوة ومساحة الأحكام والأمر والنهي.
والله تعالى يدعو عباده، ويأمرهم. وبينهما فرق. فإنّ الدعوة هي أساس الأحكام والأوامر الإلهية.
يدعو عباده إلى ما يحييهم، ويطلب من عباده أن يستجيبوا لدعوته: ﴿يا أيّها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم﴾(7)، ويأمر عباده ويحكمهم، والله تعالى يحكم عباده في التكوين والتشريع. يحكم عباده في التكوين بالقضاء والقدر، بألوان الابتلاء والفتنة والجوع والمرض ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. وليس للناس حيلة في ذلك كلّه، ولكن الله ـ تعالى ـ يطلب من عباده أن يستجيبوا لحكمه وأمره في قضائه وقدره، ويطمئنوا إليها، ويفوّضوا أمرهم إليه ـ تعالى ـ في كلّ ذلك، ويسلّموا أمرهم له تسليماً، ﴿وأُفوّض أمري إلى الله إنّ الله بصير بالعباد﴾، هذا في مساحة التكوين.
والله تعالى يحكم عباده في مساحة التشريع بالأمر والنهي. ويطلب منهم أن يستجيبوا له في أمره وحكمه ويسلّموا تسليماً ﴿ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويُسلّموا تسليماً﴾(8).
التلبية، لدعوة الله وحكمه:
والاستجابة لدعوة الله تعالى هي الإيمان والإسلام. والإعراض عن دعوة الله ـ تعالى ـ هو الكفر والشرك والريب والشك والنفاق.
والاستجابة لقضاء الله تعالى وقدره وأحكامه على عباده في الابتلاء والفتنة والفقر والجوع والموت والمرض هي التفويض، والرضا، والتسليم، والاطمئنان، والثقة بحكم الله تعالى.
وقد ورد في الدعاء: "واجعلني بقسمك راضياً قانعاً، وفي جميع الأحوال متواضعاً"، "واجعل نفسي مطمئنة بقدرك، راضية بقضائك".
وخلاف ذلك "الاعتراض" و "التذمر" و "الشكوى" من أمر الله وحكمه.
ولا ينفع الإنسان اعتراض وتذمر عن أمر الله وحكمه وقضائه وقدره في مساحة التكوين، فإنّ الله ـ تعالى ـ يقهر عباده بقضائه وقدره، ولكنه يطلب من عباده أن يستجيبوا لقضائه وقدره، ويسلّموا أمرهم إليه تسليماً، ويفوّضوا إليه أُمورهم تفويضاً، ويطمئنّوا إلى قضائه وقدره، دون اعتراض وتذمر.
والاستجابة لأمر الله وحكمه في التشريع هي الطاعة والانقياد عن طوع وإرادة.
وخلاف ذلك الزنب والمعصية والفسوق.
العقل مبدأ التلبية والاستجابة:
والاستجابة لله بكلّ أقسامها هي جوهر العبودية لله تعالى.
وقيمة الإنسان في الاستجابة لله تعالى.
ووزن الإنسان ومقامه عند الله بمقدار عبوديته وتسليمه له تعالى.
والاستجابة لله هي العبودية والتسليم، و "العقل" هو مبدأ هذه الاستجابة.
روى سماعة عن أبي عبد الله الصادق (ع) "خلق العقل، وهو أوّل خلق خلقه من الروحانيين عن يمين العرش من نوره، فقال له: أقبل فأقبل، ثمّ قال له: أدبر فأدبر"(9).
وهذه الرواية تتحدّث بلغة الرمز، وهي لغة مألوفة في الروايات الإسلامية، والإقبال هنا الاستجابة لأمر الله تعالى، وهو ما ذكرنا آنفاً أنّه جوهر العبودية لله تعالى. والعقل ينهض بهذه الرسالة في حياة الإنسان ويتبعه القلب ويقترن به.
مراتب الاستجابة والتلبية:
وللاستجابة أربع مراتب بعضها فوق بعض.
* المرتبة الأُولى من الاستجابة:هي الاستجابة التكوينية لله تعالى، فكلّ شيء في الكون مسخّر لأمر الله، يجري بأمره.
﴿والشمس والقمر والنجوم مسخّرات بأمره﴾(10).
﴿وسخّر لكم الليلَ والنهارَ والشمسَ والقمرَ والنجومُ مسخّراتٌ بأمره إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون﴾(11).
والإنسان جزء من هذا الكون، ومقهور لإرادة الله ومسخّر لأمره تعالى في شطر من شخصيته بالضرورة. وهذه الاستجابة التكوينية تعمّ المؤمن والمنافق والكافر، من دون فرق.
* المرتبة الثانية من الاستجابة:الاستجابة لأمر الله تعالى، بمعنى الطاعة وعدم الاعتراض وهي أدنى مراتب الاستجابة له تعالى، في التشريع والتكوين.
وهذه المرتبة بدون ريب من مراتب التسليم لأمر الله تعالى في أمره وقضائه، ولكن التسليم على مرتبتين:
1 ـ التسليم بمعنى الطاعة وعدم الاعتراض.
2 ـ والتسليم عن رضا بأمر الله.
والاستجابة في هذه المرتبة تسليم بالمعنى الأول، وهو روح الإسلام وجوهره. وقد روي عن أمير المؤمنين (ع) في هذا الشأن: "لأنسبنَّ الإسلام نسبة لم ينسبه أحد قبلي، ولا ينسبه أحد بعدي: الإسلام هو التسليم، والتسليم هو التصديق، والتصديق هو اليقين، واليقين هو الأداء، والأداء هو العمل"(12).
هذا التسليم لأمر الله في مساحة التشريع وهو الإسلام لله تعالى.
يقول تعالى: ﴿ومَن أحسن ديناً ممّن أسلم وجهه لله وهو محسن﴾(13).
﴿فإن حاجّوك فقل أسلمتُ وجهي لله ومن اتّبعن...﴾(14).
﴿وأُمرتُ أن أُسلِم لربّ العالمين﴾(15).
وهو طاعة الله عزّ وجلّ ورسوله (ص).
يقول تعالى: ﴿قل أطيعوا الله والرسول﴾(16).
﴿وأطيعوا الله والرسول لعلّكم تُرحمون﴾(17).
﴿أطيعوا الله ورسوله ولا تولّوا عنه وأنتم تسمعون﴾(18).
وكما يحبّ الله تعالى من عباده التسليم له في أحكامه وحدوده وشريعته، يحبّ منهم التسليم في قضائه وقدره.
وهو من خصائص الإيمان، ولا شك في أنّ الإنسان يحبّ العافية فيما يرزقه تعالى.
ولكن المؤمن إذا أُنزل به البلاء سلّم أمره إلى الله تعالى.
يروى أن صبياً لأبي جعفر الباقر (ع) كان قد مرض واشتدّ مرضه، فقلق الإمام الباقر (ع) وبان ذلك على وجهه، فمات الطفل فانبسط وجه الإمام الباقر(ع) واطمأن، فتعجّب من ذلك أصحابه.
فقال (ع): "إنّا لنحبّ أن نعافى فيمن نحبّ، فإذا جاء أمر الله سلّمنا فيما يحبّ"(19).
وعن أبي الحسن الرضا (ع) عن أبيه موسى عن جعفر (عليهما السلام) قال: أمرني أبي (يعني أبا عبد الله (ع)) أن آتي المفضل بن عمرو فأُعزّيه بإسماعيل، وقال: اقرء المفضل السلام، وقل له: أصبنا بإسماعيل فصبرنا، فاصبر كما صبرنا. إذا أردنا أمراً وأراد الله أمراً سلّمنا لأمر الله(20).
وروي عن الإمام الصادق (ع): لم يكن رسول الله يقول الشيء قد مضى لو كان غيره(21).
وهذه المرتبة من التسليم في الاستجابة لأمر الله ـ تعالى ـ تجري في أحكامه تعالى في التشريع والتكوين على نحو سواء.
* المرتبة الثالثة من الاستجابة:الاستجابة والتسليم لأمر الله عن رضا، وهذه مرتبة فوق المرتبة السابقة وتجري في التشريع والتكوين كذلك على نحو سواء.
عن رسول الله (ص): أعبد الله في الرضا، فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خير كثير(22).
وفي هذه الرواية تفكيك واضح بين مرتبتين من الاستجابة والتسليم، وانّ المرتبة العليا هي الاستجابة والتسليم عن رضا، فإن لم يتمكّن العبد من هذه المرتبة فليصبر ويسلّم أمره لله تعالى عن صبر على قضاء الله وقدره، ولا يعترض، أو يتذمر، أو يشكو من قضاء الله.
وليس معنى "الرضا" بأمر الله أن لا يحبّ الإنسان لنفسه ولن يحبّ شيئاً، ولكن معنى ذلك أنّ العبد إذا عرف أنّ الله يحبّ ما يكره رضي بما يحبّ الله، وجعل رضاه تبعاً لرضا الله عزّ وجلّ.
روي عن أبي عبد الله الصادق (ع):
"إنّا قوم نسأل الله ما نحبّ فيمن نحبّ، فيعطينا، فإذا أحبّ ما نكره فيمن نحبّ رضينا"(23).
* والمرتبة الرابعة للاستجابة:هي الاستجابة عن حبّ وشوق إلى الله تعالى ودعوته وأمره وقضائه.
والحبّ والشوق مرتبة فوق مرتبة الرضا.
وأحسن حالات العبادة والإقبال على الله والاستجابة لدعوته تعالى وأمره وذكره، هو ما يكون عن شوق وحبّ.
عن رسول الله (ص):
"أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها، وأحبّها بقلبه، وباشرها بجسده، وتفرّغ لها، فهو لا يبالي أصبح من الدنيا على عُسر أم على يُسر"(24).
يروي هارون بن خارجة عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال:
"إنّ العبّاد ثلاثة: قوم عبدوا الله عزّ وجلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء، وقوم عبدوا الله حبّاً له فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة"(25).
عن يونس بن ظبيان قال: قال الصادق جعفر بن محمد (ع):
"إنّ الناس يعبدون الله عزّ وجلّ على ثلاث أوجه:
فطبقةٌ يعبدونه رغبةً في ثوابه، فتلك عبادة الحرصاء، وهو الطمع.
وآخرون يعبدونه خوفاً من النار، فتلك عبادة العبيد، وهي الرهبة.
ولكني أعبده حبّاً له عزّ وجلّ، فتلك عبادة الكرام، وهو الأمن لقوله عزّ وجلّ: ﴿وهم من فزع يومئذ آمنون﴾(26)، ولقوله عزّ وجلّ: ﴿قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحبِبْكُمُ الله ويغفر لكم ذنوبكم﴾(27).
فمن أحبّ الله عزّ وجلّ أحبّه الله، ومن أحبّه الله كان من الآمنين"(28).
وعن أمير المؤمنين (ع):
"إنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد. وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار"(29).
يقول الشيخ محمد مهدي النراقي في كتابه القيّم "جامع السعادات" في التعليق على الروايات الواردة في "عبادة الأحرار":
"لا ريب في أنّ العبادة على الوجه الأخير لا نسبة لمنزلتها ودرجتها إلى درجة العبادة على الوجهين الأوّلين، فإنّ من تنعّم بلقاء الله والنظر إلى وجهه الكريم يسخر ممّن يلتفت إلى وجه الحور العين"(30).
"تكبيرة الإحرام" و "التلبية":
وقد أودع الله تعالى في "الحج" كنوزاً من الوعي، والإخلاص، والانفتاح، والإقبال على الله، والإعراض عمّا دون الله، والكدح، والتسليم، والتوحيد، والاخلاص، والتوكل، والذكر، والولاء، والبراءة، وغير ذلك من أبواب المعرفة والكدح إلى الله، ومفتاح هذه الكنوز جميعاً "التلبية"، ولا ينال الحاج ما أودع الله تعالى في الحجّ من هذه الكنوز إلاّ إذا أحسن التلبية.
ومن لا يحسن التلبية لا ينال من حجّه الكثير، وكلّ ما كان حظّ الحاج أكثر من الإقبال والانفتاح على الله في التلبية كان حظّه من مواهب الحجّ أكثر.
وشأن "التلبية" في الحجّ شأن "تكبيرة الإحرام" في الصلاة. فإنّ الصلاة كنز، ومفتاح هذا الكنز تكبيرة الإحرام. ومن أحسن "تكبيرة الإحرام" في الصلاة فتح الله تعالى عليه كنوز الصلاة، ومن لم يحسن تكبيرة الاحرام، كانت صلاته هيكلا من دون روح.
فإنّ كلاًّ من الصلاة والحج، رحلة إلى الله تعالى. وكلّ رحلة إلى الله عروج وصعود. ولابدّ في هذا العروج من أن ينفصل عن هذه الدنيا ويقلع عنها اِقلاعاً كاملا بصورة مؤقتة خلال هذه الرحلة، وما لم يقلع الإنسان في صلاته وحجّه عن دنياه، وما لم يتحرّر من الأواصر والعلائق التي تشدّه إلى هذه الدنيا شدّاً، لا يستطيع الإنسان أن يجد في صلاته وحجّه ذوق العروج والسفر إلى الله.
وليس يدعو الإسلام الناس إلى أن يفصلوا أنفسهم عن دنياهم التي لابدّ لهم منها، ولا يريد منهم أن يعرضوا عن هذه الدنيا وما فيها من لذّة ونعيم وعلائق ووشائح تشدّهم بها، وإنّما يطلب منهم أن يتحرّروا في حياتهم من أسر التعلّق بهذه الدنيا وحبّها والافتتان بها. وهذا رأي الإسلام في التعامل مع الدنيا.
تكبيرة الإحرام مفتاح الصلاة:
فإذا أقبل العبد على الله ـ تعالى ـ في صلاته فلابدّ من أن يفصل نفسه عن هذه الدنيا وما فيها من علائق ووشائج ولذّة وفتنة فصلا كاملا; لكي يستطيع أن ينعم بلذّة العروج والصعود إلى الله في الصلاة.
ففي هذه الرحلة العجيبة التي يكرم الله ـ تعالى ـ بها عباده في كلّ يوم خمس مرّات، يمرّ الإنسان بآفاق رحبه من الحمد، والعبادة، والاستعانة بالله، والتوحيد، والتعظيم، والدعاء، والتسبيح، والتأليه، والذكر، والشكر، والتضرّف والإبتهال، والمناجاة، والتسليم له، وما لا أعرف من آفاق العبودية لله، وليس بإمكان الإنسان أن يقطع هذه الآفاق الرحبة المباركة من لقاء الله، ما لم ينفصل بشكل كامل عن هذه الدنيا وما فيها من لذّة ونعيم وعلائق ووشائج وهمّ وحرص وقلق وانشغال، فإنّها تصرفه وتشغله عن آفاق اللقاء في هذه الرحلة.
وأشدّ ما في الصلاة، هو هذا الانفصال والإقلاع عمّا حول الإنسان من العلائق والوشائج ومن الهمّ والتفكير في الدنيا والانشغال بها، فإذا أمكنه أن يقلع في صلاته عن ذلك كلّه أمكنه أن يعرج في صلاته إلى الله، وأن يتمتع في هذه الرحلة بلذّة لقاء الله، وأن يعيش فيها آفاق اللقاء الرحبة المباركة، وأن يتمتع بمواهبها وكنوزها.
ومفتاح ذلك كلّه "تكبيرة الإحرام"، فإنّها إذا أدّاها مقيم الصلاة أداءً صحيحاً تفصله مرّة واحدة، ـ وبحركة سريعة خفيفة عمّا حوله ـ فصلا سريعاً قويّاً.
فإنّ تكبيرة الإحرام تتضمّن بُعدين، أحدهما يتضمّن الآخر، وهما معاً يقوّمان معنى هذه التكبيرة العظيمة التي يفتح بها المصلّي صلاته.
البُعد الأول: تكبير الله تعالى وتعظيمه. والله كبير عظيم، ذو الجلال، والكبرياء، والعظمة، إلاّ أنّ هذا التكبير يتضمّن معنًى رقيقاً يستحقّ الكثير من التأمل والتفكير، وهو معنى "أفعل التفضيل" في هذه الكلمة، ومقارنة كبرياء الله ـ تعالى ـ إلى وضاعة الدنيا، وجلال الله إلى حقارة ما يشغله ويصرفه عن الله. فكلّ ما في هذه الدنيا ممّا دون الله حقير وضيف ومتاع زائل، ومن سقط المتاع ومتاع الغرور.
﴿إعلموا أنّما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباتهُ ثمّ يهيج فتراه مصفرّاً ثمّ يكون حُطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور﴾(31).
ومتاع مثل هذا المتاع زائل ووضيع لا يستحق أن يصرف الإنسان ويشغله عن الله ذي الجلال والاكرام، ولو اللحظة واحدة، ولا يحسن به أن يرافقه في هذه الرحلة، فيشغله عن الله، ويصرفه عنه تعالى، ولو لبعض الوقت، وببعض الانشغال والانصراف، فإنّ الله أكبر من كلّ ذلك وأجلّ وأعظم، وهو الباقي وما في هذه الدنيا زائل، وهو الحقّ وما في هذه الدنيا باطل، وهو العظيم وما في هذه الدنيا حقير. وهذا هو البُعد الثاني الذي تتضمنّه تكبيرة الإحرام. وهذا البُعد يستنبطه معنى "أفعل التفضيل" في التكبيرة.
ويستحب أن يفتح المقيم للصلاة صلاته بسبع تكبيرات، ليؤكّد ويعمّق في نفسه حالة الإقلاع والفصل عن الدنيا، ويتجاوز بها الحجب التي تحجبه عن الله تعالى، ليمكنه بعد ذلك أن ينطلق إلى الله في هذه الرحلة العجيبة.
وقد روي في تعليل التكبيرات السبعة في افتتاح الصلاة: "أنّ النبي (ص) لمّا أُسري به إلى السماء قطع سبعة حُجب، فكبّر عند كلّ حجاب تكبيرة، فأوصله الله ـ عزّ وجلّ ـ بذلك إلى منتهى الكرامة"(32).
والتلبية مفتاح الحج:
وينطلق الحاج إلى الحجّ من "الميقات" بـ "التلبية"، والتلبية مفتاح الحجّ، كما أنّ التكبيرة مفتاح الصلاة، ومن دون التلبية لا يتمكّن الحاج من أن ينطلق في هذه الرحلة المباركة التي شقّ طريقها إليها أبونا إبراهيم (ع)، وعمّقه، ووكده ابنه المصطفى خاتم الأنبياء (ص).
ولا يتأتّى للإنسان أن ينطلق إلى الله في هذه الرحلة الإبراهيمية في الاستجابة لدعوة الله تعالى، من دون أن يفتح كلّ قلبه في هذه الاستجابة، ويلبّي الدعوة إلى هذه الضيافة التي ينعم بها الله تعالى على عباده في كلّ سنة، عند بيته المحرّم، بكلّ مشاعره وأحاسيسه وعقله وقلبه.
ولا تتأتّى له هذه الاستجابة وهذا والانفتاح على هذه الدعوة إذا كان لا يعرض في هذه الرحلة ـ على الأقل ـ عن كلّ دعوة أُخرى يدعوه إليها ما في الدنيا من الغنى، وإذا كان لا يقاطف ـ ولو بصورة مؤقتة ـ كلّ ما يشغل باله وهمّه عن هذه الدعوة.
إنّ التلبية من فعل القلب، وأفعال الجوانح تختلف عن أفعال الجوارح.
فليس في وُسع القلب أن يكون له في وقت واحد همّان واهتمامان، وانشغالان، وانصرافان واستجابتان، وذكران، بعكس الجوارح التي يمكنها أن تمارس في وقت واحد أكثر من فعل واحد.
يقول تعالى: ﴿ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه﴾(33).
فليس في جوف الإنسان إلاّ قلب واحد، وليس للقلب الواحد إلاّ اهتمام واحد.
فإمّا أن يصرف الإنسان هذا الإهتمام في الاستجابة إلى الله تعالى، وإما أن يصرفه إلى غير الله، وإمّا أن يعطل الإنسان قلبه، ويُبلّدهُ فيكون محلا لكلّ شارد ووارد.
التلبية استجابة وإعراض:
والتلبية استجابة وإعراض. استجابة لدعوة الله ـ تعالى ـ وإعراض عن كلّ دعوة أُخرى. ممّا تلقاها في هذه الدنيا.
وليس يدعو الإسلام المسلمينَ إلى الإعراض عن الدنيا، وليس ينهي الإسلام عن الإقبال على هذه الدنيا وفتنها، وإنّما يدعوهم إلى أن يجعلوا استجابتهم لها في طول استجابتهم لدعوة الله وامتدادها، وليس في عرضها، وإلى جنبها.
وأمّا في "الحج" فلا يتمكّن الحاج أن يستجيب لهذه الدعوة الإلهية وأن يقطع آفاق هذه الرحلة الإبراهيميّة المباركة إن لم يمحّض قلبه واهتمامه واستجابته لله تعالى، ولا يتأتّى له هذا التمحيض إن لم يعرض عن أية دعوة أُخرى في هذه الدنيا. حتى لا تشغله دعوة عن هذه الدعوة، ولا تصرفه مغريات دعوات الدنيا وعواملها وفتنها عن دعوة الله تعالى لعبادة الله. و "التلبية" تتضمّن هذين المعنيين معاً، الاستجابة لله، والإعراض عن غير الله، والانفتاح على الله والانقلاب عمّا دون الله.
الانقلاب الذي يحدث في "الميقات" بفعل "التلبية":
و "التلبية" تفصل الحاج في الميقات فصلا كاملا عن دعوات هذه الدنيا ومغرياتها وفتنها وإثاراتها مرّة واحدة، ويصبّ الحاج من كلّ فجّ عميق في الميقات بأزياء مختلفة وهموم كثيرة واهتمامات عديدة، فيصيغهم الله تعالى في "الميقات" صياغة جديدة وينتزعهم من كلّ رغباتهم وهمومهم واهتماماتهم انتزاعاً كاملا بـ "التلبية"، ويمحّضهم للاستجابة لدعوته تعالى، وينزعهم أزياءهم. ويوحّد نسكهم وزيّهم وهمّهم واهتمامهم وعملهم ومسارهم ويَصُبَّهُم في مصبٍّ واحد إلى بيته المحرّم.
و مبدأ كلّ ذلك ومنطلقه "التلبية"، فإنّ التلبية توحّد في نفس الحاج شتات الهموم والاهتمامات والاستجابات والرغبات، وتوحّد همّهم واهتمامهم ورغباتهم واستجاباتهم باتّجاه الاستجابة إلى دعوة الله تعالى.
إنّ "التلبية" تجمع شتات اهتمامات الإنسان في همّ واهتمام واحد، وتجمع بنفس الطريقة شتات اهتمام الناس وتعدد مذاهبهم في الحياة الدنيا في اتجاه واحد.
إنّ الحياة تشتت الإنسان إلى هموم واهتمامات شتّى، وتشتت الناس إلى مصالح ومذاهب شتّى.
والميقات يجمع شتات الناس، في همّ واحد، واهتمام واحد، وزيّ واحد، وطريق واحد.
و "التلبية" هي وسيلة هذا التوحيد، وفي الوقت نفسه توجّه هذا الحشد البشري الهائل الواحد إلى الله الواحد القهّار.
فهي توحّد الإنسان (الفرد) وتوجهه إلى الله.
وتوحّد الناس (المجتمع) وتوجّههم إلى الله.
وهذا الانقلاب العظيم يجري في "الميقات" بفعل "التلبية"، و "الميقات" و "الحرم" وعاء هذا الانقلاب، و "التلبية" عامل هذا الانقلاب.
وغاية الحجّ أن تتحوّل ساحة الحياة كلّها إلى "الميقات" و "الحرم"، ويكون لكلمة "لا إله إلاّ الله" في ساحة الحياة الواسعة نفس الفعل والدور الذي يكون لكلمة "التلبية"، وأن ينقل الحجّاج "الحرم" إلى واقع حياتهم في "السوق".
ومن بؤس الناس وشقائهم أنّهم ينقلون "السوق" إلى "الحرم"، بخلاف ما يريده الله تعالى وذلك أنّ "التلبية" تعيدُ بناء الفرد والمجتمع.
وهذا البناء يتمّ على صعيدين:
توجيه الناس إلى الاستجابة لله تعالى، وهو البُعد الأوّل. وتوحيد الناس بهذا الاتجاه، وهو البُعد الثاني. والبُعد الأول يوحّد شتات هموم الإنسان واهتماماته، والبُعد الثاني يوحّد شتات مذاهب الناس ومصالحهم وأعمالهم.
ويحبّ الله تعالى أن ينقل الحجاج هذه "الوُحدانية الموجهة" إلى حياتهم في الأسواق، وفي مواقع الحكم والسياسة، وساحات الصراع... ومن عجب أنّ الناس ينقلون شتات أهوائهم وميولهم ومذاهبهم إلى "الميقات" و "الحرم".
ولو أمعنّا النظر في "الميقات" و "التلبية" لقلنا: إنّ الميقات ليس فقط يستقبل شتات الناس ليصهرهم في اتجاه واحد، واهتمام واحد، وأُسرة واحدة، وهمّ واحد، وإنّما ينتزعهم من دنياهم انتزاعاً ليعبد بناءهم الفردي والاجتماعي، بعد أن شتتتهم الحياة الدنيا آراءً ومذاهب ومصالح وهموماً.
هذا إذا أعطى الحاج نفسه لـ "التلبية"، وفعل "التلبية" في نفسه، وفتح كلّ قلبه بالتلبية على الله، ولم يحتفظ لنفسه عند التلبية بشطر من قلبه، ويعطي الشطر الآخر لله تعالى. فإنّ القلب السليم لا ينشطر ولا يتعدّد. ﴿ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه﴾.
والقلب البليد العاطل فقط ينشطر ويتعدّد.
وأمارة سلامة القلب توحيد الله، وأمارة بلادة القلب وعَطَله التعدّد والانشطار.
والتلبية توجه القلوب إلى الاستجابة لله، وتوحّد القلوب في هذه الاستجابة.
وهذه هي أبعاد هذا الانقلاب العظيم. ووعاؤه "الميقات" و "الحرم". وعامله "التلبية".
روي عن الإمام الرضا (ع): "إنمّا أُمروا بالإحرام ليخشعوا قبل دخولهم حرم الله وأمنه، ولئلاّ يلهو ويشتغلوا بشيء من أُمور الدنيا وزينتها ولذّاتها، ويكونوا جادّين فيما هم فيه، قاصدين نحوه مقبلين عليه بكليتهم"(34).
تأكيد التلبية:
لقد ورد في النصوص الإسلامية الاهتمام بتكرار التلبية، والإكثار منها وترديدها.
روى ابن أبي عمير وابن فضّال عن رجال شتّى عن أبي جعفر (ع) قال: قال رسول الله (ص): من لبّى في إحرامه سبعين مرّة احتساباً أشهد الله له ألف ملك ببراءة من النار وبراءة من النفاق(35).
والبراءة من النفاق من فعل التلبية، فإنّ التلبية وترديدها وتكرارها تزيل النفاق من النفس وتبرئ صاحبها من حالة النفاق، وتشتت الميول والأهواء والهموم.
وكان رسول الله يلبّي بالتلبيات الأربع المعروفات ويكثر من ذي المعارج(36).
وهي:
"لبيك ذا المعارج لبيك، لبيك تُبدئ وتعيد، والمعاد إليك لبيك، لبيك داعياً إلى دار السلام لبيك، لبيك كشّاف الكرب العظام لبيك، لبيك يا كريم لبيك، لبيك عبدك وابن عبديك بين يديك لبيك، أتقرّب إليك بمحمد وآل محمد، لبيك"(37).
شعور الحاج عند التلبية:
إنّ التلبية تقترن في نفس الحاج بانفعالات نفسيّة وأحاسيس مختلفة، فهي تقترن بالشوق إذ يقبل الحاج إلى الميقات ملبّياً دعوة ربّه. ويقترن بالإحساس بالهيبة عندما يشعر الحاج أنّه يقف بين يدي ذي الجلال والعظمة ليلبّي دعوته. ويقترن بالرهبة والخوف، عندما ينظر إلى نفسه، فلا يراها أهلا لهذا التكريم الإلهي، ولا يراها موضعاً لهذه الدعوة الإلهية ويخشى إن لبّى أن يردّ الله تعالى تلبيته.
روى الصدوق في الأمالي عن ابن المتوكل عن السعدآبادي عن البرقي عن أبيه، عن الأزدي قال: سمعت "مالك بن أنس" فقيه المدينة يقول: كنت أدخل إلى الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام)، فيقدّم لي مخدّة، ويعرف لي قدراً، ويقول: مالك إنّي أُحبّك، فكنت أُسرّ بذلك، وأحمد الله عليه.
قال: وكان ـ عليه السلام ـ لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إمّا صائماً، وإمّا قائماً، وإمّا ذاكراً، وكان من عظماء العبّاد، وأكابر الزهّاد الذين يخشون الله عزّ وجلّ، وكان كثير الحديث، طيب المجالسة، كثير الفوائد، فإذا قال: قال رسول الله(ص)، اخضرّ مرّة واصفرّ مرّةً أُخرى، حتى ينكره من كان يعرفه.
ولقد حججت معه سنة، فلمّا استوت به راحلته عند الإحرام كان كلّما همّ بالتلبية إنقطع الصوت في حلقه، وكاد أن يخرّ من راحلته، فقلت: يا ابن رسول الله(ص) ولابدّ لك من أن تقول، فقال: كيف أجسر أن أقول: لبّيك اللّهمّ لبّيك، وأخشى أن يقول عزّ وجلّ لي: لا لبّيك ولا سعديك(38).
وعند الوقوف بين يدي الله تعالى في موقف التلبية في الميقات تتفاعل هذه الانفعالات والأحاسيس في نفس الحاج، وهذا المزيج المتناسق والمتكامل من المشاعر والانفعالات النفسية تساهم في هذه النقلة والانقلاب النفسي والاجتماعي الذي يحصل للحجاج في "الميقات" و "الحرم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الحج: 27.
2- بحار الأنوار 99: 184; وعلل الشرايع: 416.
3- الأحزاب: 72.
4- فاطر: 15.
5- فروع الكافي 1: 196; من لا يحضره الفقيه 1: 23.
6- وسائل الشيعة 4: 1086 ح8616.
7- الأنفال: 24.
8- النساء: 65.
9- بحار الأنوار 1: 109.
10- الأعراف: 54.
11- النحل: 12.
12- بحار الأنوار 68: 309.
13- النساء: 125.
14- آل عمران: 20.
15- غافر: 66.
16- آل عمران: 32.
17- آل عمران: 132.
18- الأنفال: 20.
19- بحار الأنوار 46: 301.
20- بحار الأنوار 82: 103.
21- تنبيه الخواطر: 417.
22- المحجة البيضاء 5: 104.
23- بحار الأنوار 82: 132.
24- أُصول الكافي 2: 83.
25- وسائل الشيعة 1: 45، مكتبة الإسلامية، طهران.
26- النمل: 89.
27- آل عمران: 31.
28- وسائل الشيعة 1: 46; عن علل الشرائع: 16; والمجالس: 21; والخصال 1: 88.
29- نهج البلاغة بتحقيق صبحي صالح 3: 510 حكمة رقم 237.
30- جامع السعادات 3: 117.
31- الحديد: 20.
32- وسائل الشيعة 4: 722.
33- الأحزاب: 4.
34- وسائل الشيعة 9: 3.
35- المحاسن للبرقي: 64.
36- قرب الاسناد: 76.
37- فقه الرضا (ع): 27.
38- أمالي الصدوق: 169.